مدخل الى القضية الفلسطينية
لا يمكن التعامل مع الصراع الدائر فوق ارض فلسطين المحتلة كصراع نموذجي من الصراعات البشرية العادية، كما لا يمكن اعتبار هذا الصراع امتداداً لصراعات لم تتوقف بين القوى المختلفة للسيطرة على أرض فلسطين لأسباب اقتصادية أو عسكرية أو حتى دينية .
فالصراع الذي تحياه الأمة - بدرجات متفاوتة - مع العدو الصهيوني يشكل صراعاً تتداخل فيه الظروف التاريخية والسياسية وعوامل الاقتصاد والدين وحتى الرؤية الحضارية للمنطقة العربية والإسلامية ودورها في موكب الحضارة الإنسانية .
ويكفي استعراض المراحل التاريخية التي مرت بها القضية الفلسطينية لتوضيح هذه الحقيقة فبينما كان التنافس الإستعماري الاوروبي يشتد في نهاية القرن الثامن عشر لوراثة الإمبراطورية العثمانية، والسيطرة على طريق الهند الإستراتيجي، ويشكل عاملاً أساسياً لرسم سياسات الدول الأوروبية، حاول الحركيون اليهود - بدعم أوروبي شاركت فيه آنذاك ألمانيا وبريطانيا - الضغط على الخلافة العثمانية لانتزاع ميثاق من السلطان عبد الحميد الثاني يمنح اليهود حق الإستيطان في فلسطين والسماح بهجرتهم إليها، غير أن السلطان العثماني رفض الضغوط الأوروبية وإغراءات اليهود .
وفي الفترة بين عامي 1900- 1901 أصدر السلطان عبد الحميد بلاغاً يمنع المسافرين اليهود من الإقامة في فلسطين لأكثر من ثلاثة أشهر، كما أمر بمنع اليهود من شراء أي أرض في فلسطين، خشية أن تتحول هذه الأراضي إلى قاعدة لهم تمكنهم من سلخ فلسطين عن بقية الجسد المسلم .
وفي عام 1902 تقدم اليهود بعرض مغر للسلطان عبد الحميد يتعهد بموجبه أثرياء اليهود بوفاء جميع ديون الدولة العثمانية وبناء أسطول لحمايتها، وتقديم قرض بـ(35) مليون ليرة ذهبية لخزينة الدولة العثمانية المنهكة، إلا أن السلطان رفض العروض وكان رده كما جاء في مذكرات ثيودور هرتزل: (انصحوا الدكتور هرتزل ألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، لأني لا استطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الارض، فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي، لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الارض ورواها بدمائه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت امبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الامبراطورية الاسلامية، وهذا أمر لا يكون، فأنا لا استطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة .. ) .
وعندما أيقن اليهود بفشل جميع المحاولات الممكنة بدأوا بالعمل على إسقاط الخلافة العثمانية، حيث استطاعوا التسرب عن طريق طائفة يهود الدونمة التي تظاهر أفرادها بالإسلام وحملوا الأسماء التركية، ودخلوا في جميعة "الاتحاد والترقي" ووصلوا الى الحكم سنة 1907، وتصاعد النشاط الصهيوني في فلسطين بدعم من أنصار الاتحاد والترقي ويهود الدونمة الذين سيطروا على مقاليد السلطة في الاستانة حيث سمح الحاكم العثماني الجديد لليهود بالهجرة إلى فلسطين وشراء الأراضي فيها، مما فتح أمام المنظمات الصهيونية للبدء بالنشاط العملي على نطاق واسع حتى سقطت الخلافة رسمياً سنة ( 1924) واحتلت الجيوش البريطانية فلسطين .
لقد التقت المصالح الاستعمارية الاوروبية في انتزاع فلسطين من الوطن العربي مع المصالح الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود، بل إن قادة أوروبا هم الذين عرضوا على اليهود إقامة وطن لهم في فلسطين، قبل أن تطرح الحركة الصهيونية الفكرة بسنوات طويلة، وعلى الأخص من جانب فرنسا وبريطانيا في محاولة للتخلص من المشكلة اليهودية في أوروبا وتحقيق مكاسب استعمارية من الدولة اليهودية .
كان التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا واضحاً في الشرق الأوسط، حتى قبل قيام الحركة الصهيونية، وكان هدف كل منهما حماية مصالحه في المنطقة، وملاحقة الدولة الأخرى من إجل إيذائها أو منافستها على تلك المصالح، وإيجاد الوسائل المختلفة التي تحمي مصالحها واعتقدت بريطانيا بعد فشل نابليون بونابرت في مصر وبلاد الشام، أنه من المفيد إيجاد بدائل اخرى في الشرق الأوسط، لاستمرار تفوقها على فرنسا. وقد وجدت في فلسطين مكاناً ملائماً لبسط نفوذها بسبب الموقع الجغرافي الذي تتمتع فيه وسط الوطن العربي وباعتبارها البوابة التي تربط بين أسيا وأفريقيا، ولهذا فإن من مصلحة الاستعمار الاوروبي والبريطاني بالذات، فصل الجزء الاسيوي عن الجزء الأفريقي من الوطن العربي، وخلق ظروف لا تسمح بتحقيق الوحدة بين الجزءين في المستقبل .
بدأ الموقف البريطاني يتضح بعد حملة محمد علي باشا والي مصر الى الشام، عندما أرسل ابنه ابراهيم باشا الى المنطقة، مما أثار بريطانيا لأنها خشيت أن تتوحد مصر مع بلاد الشام في دولة واحدة، لهذا ساهمت بريطانيا مع الدولة العثمانية في إفشال حملة ابراهيم باشا على بلاد الشام .
وبعد تدخل بريطانيا، أرسل بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا مذكرة إلى سفيره في استانبول في عام 1840، شرح فيها الفوائد التي سوف يحصل علىها السلطان العثماني من تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين وقال :« إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت حمايته يشكل سداً في وجه مخططات شريرية يعدها محمد علي أو من يخلفه » .
وفي مارس / آذار 1840 وجه البارون اليهودي روتشيليد خطاباً إلى بالمر ستون قال فيه : «إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم واتحادهم، إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في أسيا. وكانت فلسطين دائماً بوابة على الشرق. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه، وإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقاً للعهد القديم، ولكنها أيضاً خدمة للامبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الامبراطورية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين».
هاتان الوثيقتان الصادرتان عن بريطانيا وأحد زعماء اليهود، تظهران التقاء مصالح الطرفين في محاربة قيام دولة عربية موحدة، وأن ذلك لا يتم إلا من خلال إقامة دولة دخيلة لليهود في قلب المنطقة العربية ، وقد دعا تقرير بريطاني اعدته لجنة شكلها رئيس وزراء بريطانيا (هنري كمبل- بانزمان) عام 1907 إلى العمل من أجل إبقاء المنطقة العربية مجزأة ومتأخرة وإلى «محاربة اتحاد الجماهير العربية أو ارتباطها بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو الروحي أو التاريخي، وذلك من خلال العمل على فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي، عن طريق إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط آسيا وإفريقيا، بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة لنا وعدوة لسكان المنطقة » .
تحياتي
هيماااااااا